War & Peace

الوضع في الخطوط الأمامية في جحيم مستشفى غزة: حوار مع د. تانيا الحاج حسن

د. تانيا الحاج حسن تتحدث عن المعاناة وإصرار العاملين في مجال الرعاية الصحية في غزة.
تناقش د. تانيا الحاج حسن استهداف البنية التحتية للرعاية الصحية في غزة، والإفادات المروعة عن التعذيب، وآثار الحرب الإسرائيلية على الأطفال، وصمت السلطات الطبية الأمريكية مع استمرار الإبادة الجماعية لسكان غزة.

إحدى أولى المنشورات على صفحة GazaMedicVoices@، وهي صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي تقدم روايات مباشرة من العاملين في مجال الرعاية الصحية على الأرض في غزة، والتي جرت مشاركتها في 12 أكتوبر 2023. وقد عرضت شهادة لجرّاحة استشارية في غزة، يعود تاريخها إلى ثلاثة أيام فقط من بدء حملة الإبادة الإسرائيلية - قبل أن يُتعرّف عليها على هذا النحو بالنسبة للكثيرين. "بعد أن أمضيت خمسة أيام دون مغادرة المستشفى، أجد نفسي في حيرة من أمري ولا أجد الكلمات"، هكذا نادت الطبيبة الجراحة. "لم يسبق لي أن شهدت شيئًا كهذا من قبل في حياتي كلها، وأنا غير قادرة على التعبير عما رأيته. لقد أصبحت عاجزة عن الكلام".

وبعد مرور أكثر من 200 يوم، لا يزال الرعب الذي أحدثه الجيش الإسرائيلي بدعم من الحكومة الأمريكية، على شعب غزة المحاصر، يصدم الضمير والوجدان. لقد وجدت نفسي في بعض الأحيان مصدومة للغاية مما أشاهده من خلال شاشة هاتفي لدرجة أنني أنسى أن أتنفس.

تستمر إسرائيل في ضرب البنية التحتية المدنية في غزة بثبات ينافس ثبات يد أي جراح، ولكن في هذه الحالة يكون الثبات هو لخدمة الموت وليس الحياة. ومن بين أوضح أهدافه يظل نظام الرعاية الصحية في غزة والعاملين في مجال الرعاية الصحية، والذين يهدد التزامهم بالحفاظ على حياة شعبهم تنفيذ المشروع الإسرائيلي. فحتى 15 مايو، قُتل ما لا يقل عن 493 عاملاً في مجال الرعاية الصحية على يد إسرائيل، غالبًا من خلال القصف المستهدف أو الإعدام بإجراءات موجزة داخل أبواب مجمعات المستشفيات. ومن المحتمل أن يكون هذا الرقم أقل من العدد الفعلي، حيث إن آلية إحصاء الضحايا اعتمدت على مستشفيات غزة، التي استهدفت كل واحدة منها، وتوقفت 23 منها عن العمل. وتعرض المئات من العاملين في مجال الرعاية الصحية للاعتقال والتعذيب؛ ولا يزال العديد منهم في السجون الإسرائيلية.

برزت د. تانيا الحاج حسن، طبيبة العناية المركزة للأطفال والتي تعمل مع منظمة أطباء بلا حدود وشاركت في تأسيس صفحة GazaMedicVoices@، كواحدة من أبرز الأصوات التي تدق ناقوس الخطر بشأن الجحيم الذي خلقته إسرائيل للعاملين في مجال الرعاية الصحية في غزة. كما أنها تطوعت، قبل ومنذ أكتوبر، كطبيبة للعمل في غزة. وقد تحدثت إليها مؤخرًا عبر منصة زووم (Zoom). وتناقشنا في استهداف البنية التحتية للرعاية الصحية في غزة، والشهادات المروعة عن التعذيب التي تجمعها هي وآخرون، والآثار الدائمة لحرب إسرائيل على الأطفال (ومستقبل فلسطين)، وما الذي يمكن فعله تجاه صمت الجهات الطبية الأمريكية التي لا ترمش لها عين والتي تبدو غير منزعجة بينما تتكشف الإبادة الجماعية أمام أعيننا.

وقد عُدّلت محادثتنا من أجل الاختصار والإيضاح.

ماري طرفة: قرأت بالأمس تقريرًا عن اكتشاف مقبرة جماعية ثالثة في مستشفى الشفاء. قبل شهر واحد،  كُشف عن المقابر الجماعية الأولى هناك، وكانت سكاي نيوز قد أجرت مقابلة معك. ونقل المذيع عن مصادر عسكرية إسرائيلية قولها إنهم احتجزوا "المئات من مقاتلي حماس" داخل المجمع، ثم سألك عن رأيك في ذلك. هل يمكنك التحدث عن ردك عليه، وعلى هذا الهوس المستمر بـ"المسلحين في مستشفى الشفاء"، في حين لم يسلم مستشفى واحد في غزة، وحتى عندما كُشف عن مقابر جماعية (وصلت إلى سبعة في مجموعها حتى الآن) في مستشفيات متعددة في غزة؟

تانيا الحاج حسن: نعم. أعتقد أن ردي كان كالتالي: لا أستطيع أن أصدق أننا ما زلنا نجري هذه المحادثة. لقد سئم الجميع من ذوي الخلفيات الطبية أو الإنسانية من الاضطرار للرد على هذه المبررات الفظيعة وغير المعقولة التي تٌقدّم لأشياء لا يمكن تبريرها على الإطلاق. لقد اعتقدت أن مسألة حماس ومستشفى الشفاء قد دُفنت منذ زمن طويل. لقد مرت عدة أسابيع وكان هذا هو كل ما نُسأل عنه في المقابلات. وقد أُجريت الكثير من التحقيقات التي خلُصت إلى عدم وجود أدلة موثوقة لتبرير الهجمات على مستشفى الشفاء. وبعد ذلك، استهدفت مستشفى الشفاء مرة أخرى، وحوصرت مرة أخرى.

وأعتقد أنني عدت من غزة قبل وقت قصير من مقابلة سكاي نيوز. عندما كنت في مستشفى الأقصى في دير البلح، وتحدثت مع الكثير من مقدمي الرعاية الصحية الذين كانوا في مستشفى الشفاء حتى اللحظة الأخيرة خلال الجولة الأولى من الهجمات، عندما حُوصرت المستشفى وأُجلي جميع المرضى والموظفين بالقوة. ربما تتذكرون تلك الجولة الأولى، الاستهداف الإسرائيلي للألواح الشمسية وإمدادات الأوكسجين في المستشفى، وكيف نفد الوقود من المستشفيات، وتضررت الوحدات المختلفة في المستشفى.

ثم، في نهاية المطاف، بدأ مستشفى الشفاء العمل مرة أخرى. وكان الموظفون فخورين جدًا بحقيقة أنهم أعادوا تشغيله مرة أخرى.

وفي المرة الثانية، حُوصرت المستشفى واستهدفت مرة أخرى. حيث أُخرج الكثير من الموظفين إلى ساحة المستشفى، ثم جُرّد الموظفون الذكور من ملابسهم. واعتدى الجنود الإسرائيليون بالضرب على عددٍ من مقدمي الرعاية الصحية. وفي نهاية المطاف، أُطلق سراح أحد كبار المسؤولين في مستشفى الشفاء، وهو الطبيب الأكبر سنًا، وجاء سيرًا على الأقدام إلى مستشفى الأقصى. وعلى الفور، عاد إلى العمل. لقد كنت في مستشفى الأقصى عندما ظهر هناك أشعثًا، ملتحيًا، مرهقًا، وقد فقد من وزنه، لا أعرف كم كيلوغرامًا، فهو لم ير عائلته منذ خمسة أشهر، ولم يكن لديه هاتف، وليس لديه حذاء مناسب، ولم يكن عليه ملابس مناسبة.

لقد فروا بلا شيء معهم في الأساس. لقد اختطف الكثير من مقدمي الرعاية الصحية الآخرين الذين أخذوهم معه إلى خارج المستشفى. وأعتقد أن شهاداته حول ما حدث وحجم العمل الذي بذلوه لإعادة تشغيل مستشفى الشفاء مرة أخرى، جعلت سؤال مذيع سكاي نيوز مرة أخرى أكثر إثارة للغضب. لأن هذا هو الواقع الذي خرجت منه للتو، وعندما أسمعه يسأل أحد المتخصصين في مجال الصحة الذي قضى الأسابيع القليلة الماضية في إنعاش الأطفال الموتى والمحتضرين الذين تعرضوا للتشوه إلى حد لا أعتقد أنني سأكون عليه أبدًا قادرة على النسيان - على الرغم من أنني أعتقد أنه من أجل رفاهيتي وعافيتي، ربما سيكون من الجيد أن أنسى بعضًا من تلك الصور - فقد وجدت الأمر مهينًا للغاية، وإهانة لي، ولمقدمي الرعاية الصحية الذين خاطروا بحياتهم للبقاء في مستشفى الشفاء، والذين فقدوا ربع وزن أجسامهم، والذين كانوا منهكين. إنها إهانة لمقدمي الرعاية الصحية الذين قتلوا في الشفاء، والفارين من الشفاء، إلى المدنيين الذين أعدموا هناك. إنها إهانة لعقولنا. إنها إهانة للإنسانية كلها.

ماري طرفة: جرى الكشف الأسبوع الماضي عن تعرض د. عدنان البرش، جراح العظام الشهير في غزة، للتعذيب حتى الموت داخل السجون الإسرائيلية، وبحسب شهادة شهود عيان، بعد اختطافه من المستشفى حيث كان يقدم الرعاية المنقذة للحياة، في ديسمبر الماضي. وقد قُتل حتى الآن المئات من العاملين في المجال الطبي، وأصيب عدد أكبر. وقد قلت في إحدى المقابلات إن الأطباء والعاملين في مجال الرعاية الصحية يغيرون ملابسهم قبل مغادرة المستشفى حتى لا يُستهدفوا. علاوة على ذلك، يعمل الأطباء في غزة بشكل أساسي دون توقف منذ 215 يومًا. وكونك شخصًا عمل في غزة، كنت أتساءل عما إذا كان بإمكانك أن تقولي القليل عما يواجهه زملائك يومًا بعد يوم.

تانيا الحاج حسن: أريد أن أبدأ بموضوع اختطاف العاملين في مجال الرعاية الصحية، لأنه لا يُبلّغ عن هذه الظاهرة بشكل كافٍ، لدرجة أنني وزملائي، مقدمي الخدمات الطبية الذين يعملون في وظائفنا الخاصة، نقوم بأعمال التحقيق، إنها ممنهجة. لقد وثّقت مجموعتنا ما لا يقل عن 240 حالة اختطاف.

ماري طرفة: 240؟!

تانيا الحاج حسن: على الأقل 240، وأنا لا أتحدث عما أعلنته وزارة الصحة، والذي أعتقد أنه رقم أكبر. لقد وثّقنا اختطاف واحتجاز ما لا يقل عن 240 من العاملين في مجال الرعاية الصحية على يد القوات الإسرائيلية، ولم يُطلق سراح غالبيتهم. ويقدم الأشخاص الذين أُطلق سراحهم شهادات عن التعذيب، عن أنفسهم وعن التعذيب الذي شهدوه أيضًا.

لقد أخذت إفادات. الأولى، شهادة مدتها ثلاث ساعات حول التعذيب الذي تعرض له [صديقي] ممرض، لمدة 53 يومًا في الحجز، واتهم فيها بأنه جزء من حماس، وأن عائلته جزء من حماس، وحقيقة أنه قد أُطلق سراحه يُخبرك أنه لم يكن جزءًا من حماس. ونظراً لحجم التعذيب الذي تعرض له، فأنا مندهشة من نجاته. لكنه لم ينج بصحة جسدية أو عقلية سليمة. فلديه آثار، ولديه كوابيس. فقد كان يعاني من البيلة الدموية (هيماتوريا)، كان ينزف عند التبول، لعدة أسابيع بعد إطلاق سراحه.

ماري طرفة: البيلة الدموية؟ ماذا فعلوا به؟

تانيا الحاج حسن: اسمحي لي فقط أن أقول إنها كانت إساءة جسدية وجنسية ونفسية. وأعطاني وصفًا تفصيليًا لما كانت تنطوي عليه كل واحدة منها. وهذا أسوأ شيء سمعته في حياتي بصراحة. وأنا لديّ صديق عمل في تحقيقات سجن أبو غريب، وهو محامٍ في مجال حقوق الإنسان. وأنا أخبرك أن هذا هو أسوأ شيء سمعته في حياتي.

لقد عاملوه كحيوان. وهددوه باغتصاب والدته وشقيقاته إذا لم يعترف، وهددوا بقتل عائلته التي كانت لا تزال في غزة إذا لم يعترف. وذكروا أنهم يعرفون مكان مأوى عائلته، وظلوا يطلبون منه الاعتراف. ولكنه ظل يرفض الإدلاء باعتراف كاذب، وأصر على أنه ممرض ولا علاقة له بأي مجموعة عسكرية.

ودعيني أخبرك شيئًا عن هذا الممرض، لأنني أعتقد أنه من المهم أن نتخيل الصورة بشكل صحيح. هذا الممرض، ومعذرةً في اللفظ، يعمل بجد مثل الحمار. فهو أحد الممرضين الأكثر تفانيًا الذين قابلتهم على الإطلاق. وبعد أن أطلق سراحه، خمنوا ماذا يفعل الآن؟ إنه يعمل مجانًا، كمتطوع.

لنفترض أنها الثانية، أو الثالثة صباحًا. وأننا قد تلقينا مجموعات من الإصابات الجماعية الواحدة تلو الأخرى. وعندما نكون قد استنفدنا قوانا، ونكون قد انتهينا للتو من إنعاش جميع المرضى، وجميعهم في حالة مستقرة نسبيًا. وبينما يتناول الباقون منا كوبًا من الشاي، يكون هو في وحدة الإنعاش، يمسح الرمال عن عيون المرضى، وينزع ملابسهم المبللة، ويتحدث معهم. هذا هو نوع الإنسان الذي هو عليه.

وأريد فقط أن أوضح لكم الصورة، هذا الممرض لديه هالات سوداء تحت عينيه لأنه يعاني من الأرق، لأنه يستيقظ كل ليلة، بعد 30 دقيقة من النوم، وهو يصرخ "توقف عن ضربي!" توقف عن ضربي!" إنه لا يمكنه النوم، لذا فهو يعمل. ومن المفترض أن يعمل 24 ساعة، و 48 ساعة راحة، أليس كذلك؟ ولكن بعد أن عمل لمدة 24 ساعة، عاد بعد ثلاث ساعات لأنه لا يستطيع النوم.

ذات مرة، طلبت منه العودة إلى المنزل لأنه كان يعمل لفترة طويلة جدًا. فغادر. وبعد ساعتين أو ثلاث ساعات، كنت في غرفة الطوارئ، ورأيت رجلاً ملقى على الأرض مع ضمادة لإيقاف النزف، وقد بُترت ساقاه بشكل صادم، وبُترت إحدى ذراعيه بشكل مؤلم، ولديه ذراع واحدة وهو ينزف على الأرض. وهم ينعشونه وكان قد وصل للتو إلى المستشفى. ويوجد قسطرة بولية مستخدمة كعاصبة لمنع النزف حول جذعه. وعلى ساقه الأخرى، لديه ضمادة لإيقاف النزف من الفئة العسكرية. لم أشاهد أي ضمادة من النوع العسكري في غرفة الطوارئ من قبل، لكنني كنت قد أحضرت معي مجموعة كاملة منها إلى غزة، وأهديت واحدة لهذا الممرض قبل يومين.

وهذا المريض لديه ضمادة لإيقاف النزف من الفئة العسكرية على ساق واحدة. فأخرجت بسرعة واحدة أخرى من حقيبتي، ووضعتها على ساقه الأخرى، وأنا أفكر، أين وجدوا تلك الضمادة الأخرى؟

ثم استدرت ورأيت ذلك الممرض. وعندها عرفت من أين جاءت الضمادة. ولسان حالي يقول، ماذا تفعل هنا يا رجل؟ لقد قلت لك أن تذهب إلى المنزل وتستريح. فقال: "لقد عدت إلى المنزل وأخذت قسطاً من الراحة. هذا زوج أختي الملقى على الأرض وقد بُترت أطرافه الثلاثة".

ووضح أن زوج أخته ذهب إلى مركز توزيع المساعدات. وقوات الاحتلال قصفت موقع توزيع المساعدات. لذا أيقظته عائلته وطلبت منه الذهاب للاطمئنان على صهره، الذي يعرفون أنه موجود في موقع توزيع المساعدات.

وعندما وصل. رأى زوج أخته، وهو أيضًا صديقه العزيز، ينزف على الأرض، وقد بترت أطرافه الثلاثة. والآن زوج أخته موجود في المستشفى المكتظ ويحتاج إلى عمليات جراحية متعددة ونحن غير قادرين على إجرائها. إنه يعتني به، وهذا هو نفس الشخص الذي مر بكل ما أخبرتك عنه للتو.

وهذا أيضًا هو نفس الممرض الذي كان، بعد بضع ليالٍ، ينعش طفلًا في الثالثة صباحًا. وعندما مات الطفل، فقد الممرض وعيه، ورأسه على السرير أمامه.

هذه هي تجربة أحد مقدمي الرعاية الصحية الذين اختطفوا. لقد استنفد قواه تمامًا. لقد دُمّر منزله. وهو يعمل لعدد غير طبيعي من الساعات دون أجر. وهو واحد من المئات الذين اختطفوا.

وجميع العاملين الآخرين في مجال الرعاية الصحية الذين لم يُختطفوا يعرفون العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين قُتلوا أو اختُطفوا. إنهم يعملون بدون أجر، أو بأجر ضئيل، إذا كان لديهم عقد. ومعظم العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين تحدثت إليهم في مستشفى الأقصى يعيشون في الخيام في هذه المرحلة. وهم يأتون إلى العمل كل يوم، محاولين إعالة أفراد عائلاتهم لأنهم غالبًا ما يكونون الشخص الوحيد الذي لديه دخل إذا كانوا يتقاضون رواتب.

لقد فعلت هذا لمدة أسبوعين يا ماري، وكنت متعبة جدًا عندما غادرت. لقد فعلت ذلك لمدة أسبوعين فقط. لم يكن الأمر مجرد نوع من التعب الذي أشعر به خلال مناوبتي، فأنا طبيبة مناوبة بالرعاية الحرجة على مدى السنوات الثلاث الماضية. وأعرف كيف يبدو الإرهاق الناتج عن المناوبات، وهو ما كنت أعمل به في غزة. ولكن هذا كان إرهاقًا عقليًا، وكان نوعًا من الإرهاق الجسدي الذي يأتي أيضًا نتيجة عدم ممارسة الرياضة، ومن التغذية السيئة للغاية. فأنتِ تأكلين الأطعمة المعلبة باستمرار. فهذا كل ما نأكله هو الأطعمة المعلبة. أسبوعين بهذا الوضع، وجسمك متعب.

ولم يكن علي أن أقلق بشأن سلامة الأشخاص الذين يهمني أمرهم. وهم عليهم أن يقلقوا بشأن سلامة عائلاتهم. بل وأغلبهم فقدوا شخصًا قريبًا جدًا منهم. وقد التقيت ببعض مقدمي الرعاية الصحية في مستشفى الأقصى والذين كانوا قد فقدوا أزواجهم، وأطفالهم، وأبناء عمومتهم، ووالديهم.

ماري طرفة: يبدو أن القوات الإسرائيلية، على الأقل في البداية، كانت تستهدف الأطباء الذين يتمتعون بأكبر عدد من سنوات الخبرة. وبالتالي يخلفون وراءهم عدد أكبر من المبتدئين، والمقيمين، وطلاب الطب، الذين يُتوقع منهم بعد ذلك أن يتقدموا ويتولوا مهام تتجاوز تدريبهم بكثير. ماذا يحدث للنظام الطبي عندما يفقد مثل تلك الخبرة؟

تانيا الحاج حسن: إنه سؤال جيد جدًا، ولا يتعلق الأمر فقط بحقيقة استهداف كبار الأطباء، بهذا الشكل. إنها أيضًا حقيقة أنه نظرًا لاستهداف مقدمي الرعاية الصحية وحرمان سكان غزة من كل ما لا غنى عنه للمحافظة على حياة الإنسان، فإن الأشخاص الذين لديهم خيار المغادرة، في الغالب، سوف يتخذون هذا الخيار. وهؤلاء الأشخاص غالبًا ما يكونون من أفراد المجتمع الحاصلين على أعلى مستوى من التعليم، والذين لديهم دخل جيد، والذين لديهم مدخرات. فقد فر الكثير من كبار الأطباء. لقد كانوا يفرون بشكل فعلي أثناء وجودي هناك. وحتى في الفترة التي كنت فيها هناك، فقد رحل رئيس قسم حديثي الولادة، ورحل أحد كبار الأطباء في غرفة الطوارئ.

ما يعنيه ذلك هو أنه بين عشية وضحاها في قسم الطوارئ - يعمل الأطباء في مجموعات، وكانت هناك مجموعات انتهى بها الأمر بدون أطباء كبار، فقط أطباء مبتدئين تخرجوا مباشرة من كلية الطب ويعملون طوال الليل.

أنت في المجال الطبي يا مريم. تخيلي أن يكون لديك، في أي مستشفى، مناوبة بين عشية وضحاها مع إصابات جماعية متتالية حيث يصل 25 إلى 30 جريحًا مرة واحدة، كل بضع ساعات. ولديك مسعفين في سنتهم الأولى، فقد تخرجوا للتو من كلية الطب.

ماري طرفة: نعم، فلن أعرف حتى كيف تُفرز الحالات. ولن أعرف ماذا عليّ أن أفعل.

تانيا الحاج حسن: هذا هو ما يتعاملون معه. إن أي من المستشفيات ذات الموارد العالية في العالم، والمستشفيات الكبيرة التي بها غرف طوارئ فارغة عمليًا، ستكون مكتظة بالكامل وتكافح للتعامل مع أي واحدة من تلك الإصابات الجماعية. واحدة فقط! وستكون هناك مضاعفة لطاقم العمل على مدار نوبة العمل الواحدة. إن هجرة الكفاءات هي أمر حقيقي. وهذا يحدث بسبب اختناق السكان. كثير من الناس، إذا اختاروا البقاء على قيد الحياة، فسوف يختارون المغادرة. والكثير من أولئك الذين اختاروا البقاء أو ليس لديهم خيار المغادرة يتعرضون للقتل.

ماري طرفة: إنه أمر مخزي - موت بطيء أو إصابة السكان بحالة شلل، ولا يحظى بنفس الاهتمام لأنه ليس مؤثرًا أو حادًا.

تانيا الحاج حسن: من الواضح جدًا أن هناك مرحلتين لكيفية موت الناس نتيجة للطريقة التي تدير بها إسرائيل عملياتها في غزة. المرحلة الأولى هي الإعدام السريع. لديك إصابات نتيجة الانفجارات وإصابات من قناصين وشظايا. وعندما أقول قناص، أقصد القنص في الرأس. ثم هناك التالية وهي الإعدام البطيء، وهو التجويع وخلق ظروف معيشية لا تتوافق مع الحياة.

وكنا نتحدث عن مستشفى الشفاء من قبل. أحد الأطباء عندما سألته لماذا تعتقد أنهم يستمرون في استهداف مستشفى الشفاء؟ فرد أن مستشفى الشفاء هو القلب النابض لنظام الرعاية الصحية في غزة. إذا كنت تريد تدمير شعب ما، فإنك تدمر الرعاية الصحية له، المكان الذي يذهب إليه الناس عندما يحتاجون إلى المساعدة. فإذا أردت تدمير نظام رعاية صحية، عليك تدمير قلبه النابض. فهذا هو الإعدام البطيء.

ماري طرفة: الجزء الذي لم أر سوى القليل عنه هو التعرض للمواد المسرطنة. معدلات الإصابة بالسرطان في غزة، وأنواع السرطان التي نراها بين الأطفال - أنتِ تعرفين عن هذا الأمر أكثر مني. إنها ليست طبيعية. فغزة هي مجموعة سكانية تعاني من مستويات سامة من التعرض على مدى عقود من الهجمات - بالفسفور الأبيض، ومثل هذا النوع من المواد. علاوة على ذلك، المياه غير الصالحة للاستهلاك، والمواد الكيميائية التي يرشها الجيش الإسرائيلي على الحقول الزراعية لجعلها غير صالحة للاستعمال، بين الحين والآخر، في السنوات الفاصلة بين الحملات الجوية النشطة.

تانيا الحاج حسن: في بعض الأحيان، عندما تكون هناك إصابات جماعية وأذهب إلى غرفة الطوارئ، أضع قناعًا ليس فقط بسبب كمية الحطام - من المنازل المنهارة، ولكن أيضًا النفايات الناتجة عن الأسلحة المنفجرة نفسها. فعندما تدخلين إلى غرفة الطوارئ بعد وقوع إصابات جماعية، تجدين الجو ضبابيًا. لا يمكنك الرؤية بشكل سليم لأن الأشخاص الذين يجلبونهم مغطون بالرماد كليًا. لقد شاهدتي مقاطع الفيديو، وهم باللون الرمادي. ويتصاعد كل ذلك في الهواء. فعندما تقطع ملابسهم، نحصل على هذه الأعمدة المتصاعدة من أي شيء من النفايات، ونستنشقها، وتشعرين وكأنك تختنقين. فلا أعرف ما الذي نستنشقه.

ونحن نمزح حول هذا الموضوع باستمرار. فالكثير من هذه الأشياء مروعة للغاية. وأعتقد أن الناس في غزة يجيدون فعل ذلك، فهم يمزحون. فالكوميديا السوداء هي اللعبة التي تحاول فيها التغلب على شيء كهذا.

ماري طرفة: إن "الأزمة الإنسانية" التي تستطيع وسائل الإعلام استيعابها، أو حتى الحداد عليها، ممكنة فقط لأنها تضع "الخسائر البشرية" في إطار منفصل عن الأهداف السياسية الشاملة لإسرائيل، كما لو كانت الإبادة الجماعية - وعلى وجه الخصوص، فإن استهداف البنية التحتية للرعاية الصحية - هو إلى حد ما أضرار عرضية أو جانبية. ما حدود تأطير ما يحدث على أنه "أزمة إنسانية"؟

تانيا الحاج حسن: أعتقد أنني استخدمت عبارة "الأزمة الإنسانية" لبضعة أسابيع في البداية. الآن، أجد كلمة "الكارثة" محفزة أكثر لي. "فالأزمة الإنسانية" تصف وتعبر عن الفيضانات أو المجاعة المؤقتة، أو المجاعة الطبيعية. ما نراه هنا هو إعدام جماعي مستمر لجميع التركيبة السكانية للسكان. وهذا ليس بالأمر الذي يمكن للقطاع الإنساني إصلاحه.

والمسألة الأخرى هي أن الاستجابة الطبيعية لأي "أزمة إنسانية" هي جلب العاملين في المجال الإنساني. وإذا كانت نقطتي الأولى هي أن العالم الإنساني لا يستطيع حل هذه المشكلة، فإن نقطتي الثانية هي أن الجهود الإنسانية قد أُعيقت منذ البداية. فلا تسمح إسرائيل بدخول المساعدات الإنسانية، ولا تسمح للعاملين في المجال الإنساني بالانتقال إلى الأماكن التي يحتاجهم فيها الناس بشدة - فلم نتمكن من الوصول إلى الشمال. فنحن بالكاد قادرين على الوصول إلى المناطق الوسطى أو مدينة غزة. وحتى في الجنوب، هناك منظمات إنسانية إما تجلي فرقها أو تضطر إلى التحرك داخل المنطقة بعيدًا عن المناطق المحتاجة.

ومشكلتي الثالثة مع هذه الصيغة هي أنها لا تتناول الاستهداف المباشر. فلديك الكثير من المنظمات الإنسانية التي استهدفت عدة مرات. وقد تحدثنا كثيرًا عن منظمة المطبخ المركزي العالمي (World Central Kitchen)، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنهم كانوا عاملين أجانب. وقد قُتل ما لا يقل عن 11 من العاملين بالإغاثة، جميعهم من الفلسطينيين، منذ الهجوم على موظفي المطبخ المركزي العالمي. فقد قُتل في غزة من موظفي الأمم المتحدة - وقد تجاوزنا هذا الرقم القياسي المروع منذ أشهر - أكثر مما قُتل في تاريخ الأمم المتحدة بأكمله.

وبالأمس فقط طُلب مني إجراء مقابلة لمناقشة "التقارير" عن المجاعة المحتملة في غزة. وكنا نتحدث عن المجاعة منذ أشهر. فماذا تقصدون بـ "تقارير" عن مجاعة "محتملة" في غزة؟

وقبل أن أتلقى طلب المقابلة ذاك، كنت قد شاهدت للتو لقطات فيديو للدبابات الإسرائيلية عند معبر رفح، تدهس لافتة "أنا أحب غزة". وتذكرت خفقات قلبي عندما وصلت إلى غزة لأول مرة ورأيتها. لقد سمعت تقارير تفيد بأن الإسرائيليين أعدموا موظفي الحدود العاملين بغزة غير المسلحين، والذين ختموا جواز سفري بعبارة "دولة فلسطين" عند دخولي وخروجي، والذين أعدوا لي الشاي، وأفطرنا معهم في الليلة الأولى من شهر رمضان لأننا كنا قد وصلنا إلى غزة متأخرين للغاية بحيث لم نتمكن من استلام أمتعتنا، وكان وقت الإفطار قد حان. لذلك توقفنا جميعًا وأفطرنا معًا. هؤلاء هم الأشخاص الذين شاركنا معهم الطعام والشاي. لقد أعدموهم، ثم جرفوا لافتة "أنا أحب غزة".

والإعلام يريد أن يتحدث عن "أنباء" عن مجاعة. إنه صرف للانتباه عن حقيقة ما يحدث على الأرض، وهو الإبادة الجماعية.

سأقرأ الرسالة التي تلقيناها اليوم، من صفحة صوت أطباء غزة (GazaMedicVoices)، من طبيب طوارئ:

"مساء الأمس كان معظم المرضى من ضحايا الانفجارات، والكثير من الأطفال كانوا مصابين بشظايا - أحدهم أصيب بالعمى التام، وكان معظمهم يعانون من الألم عند وصولهم إلى المستشفى. وأفادت التقارير أن الجيش الإسرائيلي منع وصول سيارات الإسعاف إلى الكثير من المناطق التي يوجد بها المصابون، مما ترك الناس يعانون ويموتون. وقد أصيب عدد غير قليل منهم بالطلقات النارية بين عشية وضحاها، والتي يبدو أنها كانت موجهة نحو الركبتين، وكذلك لضحايا الانفجارات. أعداد الموظفين المحليين منخفضة وغير موجودة في بعض الأقسام، حيث أُسقطت منشورات جوية على عائلاتهم تطالبهم بالإخلاء (بعد أن هُجّروا وأُجلوا عدة مرات بالفعل)".

وهذه رسالة اليوم من رفح. أطفال يعانون من إصابات ناجمة عن الانفجارات، وجروح من الشظايا، وأحدهم مصاب بالعمى التام، ومعظمهم يعانون من الألم عند وصولهم إلى المستشفى. وهؤلاء هم الأشخاص المحظوظون بما يكفي للوصول إلى المستشفى، لأنه وفقًا لطبيب الطوارئ هذا، يمنع الجيش الإسرائيلي وصول سيارات الإسعاف، مما يضطر العديد من الضحايا إلى الموت حيث هم. أما الضحايا الآخرون الذين يسعفوهم فهم كانوا مستهدفون، بجروح ناجمة عن أعيرة نارية في الركبتين.

لا أعرف كيف يمكن تفسير التركيبة السكانية لعدد القتلى. لا يمكن أن يكون 48% من الضحايا أطفالًا، وألا يكون هذا مجرد قتل عشوائي لشعب بأكمله. إذا نظرت إلى عدد القتلى في أي حرب أخرى، اختر أي حرب أخرى، وانظر إلى التركيبة السكانية لعدد القتلى. سترى أنهم 85% إلى 90% من الرجال في سن العمل والشباب. ليس 48% من الأطفال، و 25% من النساء. هذه هي التركيبة السكانية للضحايا في غزة، هي التركيبة السكانية الدقيقة للسكان. وهذه وحدها تشير إلى الإبادة الجماعية. وبالطبع، ليس في حد ذاتها. لقد راجعت محكمة العدل الدولية المعايير بالتفصيل لحد كبير لإثبات وقوع إبادة جماعية بدرجة منطقية محتملة. ويستغرق الأمر سنوات للوصول بشكل نهائي إلى هذا القرار القانوني، ولكننا نواجه إبادة جماعية بدرجة منطقية محتملة. والتركيبة السكانية للضحايا تعكس ذلك.

ماري طرفة: أردت أن أسألك عن رفح. سيطرت إسرائيل على الجانب الفلسطيني من معبر رفح وتمنع دخول المساعدات، وفقًا لبيان صدر مؤخرًا عن منظمة أطباء بلا حدود، مما أدى إلى محاصرة السكان بالكامل وإسقاط المنشورات التي تأمرهم بالإخلاء. وفي نفس الوقت، أغلقت مصر جانبها من المعبر بالكتل الإسمنتية. فماذا تسمعون من الناس على الأرض حول العملية البرية؟

تانيا الحاج حسن: هناك ذعر شديد. ويجري إخلاء الأشخاص بعشرات الآلاف. ولا يعرفون إلى أين يمكن أن يذهبوا. إذ يُطلب منهم الذهاب إلى "المواصي". ودعيني فقط أخبرك ما هي المواصي، هي عبارة عن شريط ساحلي رملي من الخيام التي تصل إلى الماء على الشاطئ. لقد كنت في مكالمة صحفية في وقت سابق مع عاملة إغاثة إنسانية موجودة حاليًا في غزة، وقالت: "إن تسمية [المواصي] بمنطقة آمنة هو كذب، ومن النفاق أن نطلق على أيًا منها "بالمناطق الإنسانية"." لقد قُصف كل مكان يسمى "منطقة آمنة" أو "منطقة إنسانية". فقد طُلب من الناس الإخلاء إلى رفح، لكن رفح لم تكن أبدًا آمنة منذ البداية، وتتعرض حاليًا للقصف المكثف، وهناك عملية برية.

وقد حاولت المساعدة في إخلاء فتاة شابة من مستشفى الأقصى تعرضت للدهس بواسطة دبابة أثناء نومها مع عائلتها في خيمة في المواصي. لقد دهست الدبابة عائلتها بأكملها حرفيًا. وقد نجا معظم أفراد عائلتها لأنهم كانوا في الفاصل بين عجلات الجنزير للدبابة. لقد دُهست، وسُحق نصف جسدها وانكشف. وقد أجرى الأطباء لها عمليات جراحية لمدة أسبوعين لمحاولة استعادة جسدها.

لدي مقطع فيديو لها وهي تناشد بأن يجري إخلاؤها. لقد كانت فتاة شابة رقيقة. وتوفيت بينما كنت في غزة. وكانت في خيمة على شاطئ المواصي عندما دهستها دبابة إسرائيلية. ولم تسمح القوات الإسرائيلية لسيارات الإسعاف بالوصول إليها. ونزفت على الشاطئ لمدة ثماني ساعات حتى تمكنوا من نقلها إلى المستشفى، ثم عانت لمدة أسبوعين قبل أن تموت في النهاية متأثرة بجراحها.

لذا فإن تسمية أي من تلك المناطق "بالمناطق الآمنة" هو مجرد أكاذيب. ويُلقى على الناس منشورات من السماء تطلب منهم "الإخلاء". هذا ليس إخلاء. هذا تهجير قسري. إنها جريمة ضد الإنسانية.

تحدثت اليوم مع أحد زملائي الذي كان من آخر الأشخاص الذين فروا من مستشفى "أبو يوسف النجار"، وأخبرني أنه في حالة ذعر تام. وفي النهاية استطاع أن يفر من مستشفى أبو يوسف النجار أيضًا. وكانت هي المستشفى الحكومي الوحيد المتبقي في رفح. لقد كانت في المنطقة التي طلب منهم الإخلاء القسري - أنا أكره كلمة "إخلاء"، ولكن الإخلاء القسري.

وقد ساعد في إخلاء المرضى والجميع. وبعد وقت قصير، تعرض منزله للقصف. وقُتل فيه أقاربه. وأصيبت أخواته بجروح. وهو الآن يراسلني من منطقة في وسط غزة، حيث وصل مع عائلته المتبقية، ويسألني إذا كان بإمكاني مساعدته في إنشاء نقاط صحية - خيام لتقديم الرعاية الصحية للسكان - لأنه، كما قال لا توجد نقاط صحية في تلك المنطقة. وذلك بعد أن فقد أبناء عمومته وأصيبت أخواته.

ماري طرفة: ربما تتذكرين هذا الفيديو الذي ظهر لك في نوفمبر، أثناء وقفة احتجاجية استضافتها لندن للعاملين في مجال الرعاية الصحية في غزة. كنتِ ترتدين الزي الطبي وتقرأين إفادة طبيب من غزة وبدأت بالبكاء. وقد سلمت هاتفك إلى الشخص الذي بجوارك، مشيرة له إلى الشاشة بأنه يجب أن يتولى قراءة ذلك. جلستِ لتجمعي شتات نفسك. وبعد بضع ثوانٍ، وقفت وأخذت هاتفك واستمررتِ في القراءة. أفكر في هذا كثيرًا، كيف يتعين علينا، في نفس الوقت، ألا نسمح لأنفسنا بالتأثر بما نراه، لأنه ضرر أخلاقي لكل من إنسانيتنا الجماعية والفردية في حال عدم توثيق هذه الوحشية، فضلاً عن قوة الأشخاص - مثل زملائك - الذين كنت تشاركين إفاداتهم. وفي ذات الوقت، علينا أن نستمر في العمل.

تانيا الحاج حسن: ما لم يكن واضحًا في هذا الفيديو هو أنني كنت قد انتهيت للتو من قراءة الإفادات الواحدة تلو الأخرى من صفحة صوت أطباء غزة (GazaMedicVoices). لذا فإن الرسائل التي تلقيتها أنا وزملائي المقربين خلال الأسابيع القليلة الماضية من زملائنا في غزة، كانت تصبح يائسة أكثر فأكثر.

وكنت أقرؤها بالتسلسل. وتلك الرسالة الأخيرة، وهي رسالة أحد أطباء مستشفى الشفاء التي يقول فيها: "لا نعرف إن كنا سننجو الليلة"، كانت قد وصلتني قبل ساعة من الوقفة الاحتجاجية. وعندما نتلقى مثل هذه الرسائل مباشرة، فإنكِ تشعرين باليأس الشديد لأنك بعيدة ولا تستطيعين المساعدة. فهؤلاء هم الأشخاص الذين يجب أن نقدّرهم، أنهم الأشخاص الذين يمكنكِ أن تري نفسكِ بينهم.

وحقيقة أنهم تعرضوا للتجريم والاستهداف وربما لا ينجوا، كان أمرًا لا يطاق حقًا. لقد كنا نحن مجموعة واحدة، أنهم الزملاء الذين ذهبت معهم إلى غزة، والذين كانوا واقفين في مكان آخر، في تلك الوقفة الاحتجاجية. وكنا جميعا نبكي. وأعتقد أن هذا هو الشعور باليأس الجماعي، والعجز، كيف أننا جميعًا سمحنا بحدوث ذلك؟ وهذه الرغبة العميقة في حمايتهم، ومعرفة ما يمثلونه ومدى احترامنا لهم كزملاء وبشر. أعتقد أنه كان مزيجًا من الظلم الذي لا يطاق، والعجز في محاولة حماية الأشخاص الذين تحترمهم وتقدّرهم كثيرًا. والفترة التي سبقت ذلك، وأنكِ كنت جزءًا من تلك الرحلة معهم منذ البداية.

ماري طرفة: شاهدت بالأمس مقطع فيديو لصبيين يرقدان تحت أنقاض منزلهما. لقد بدوا وكأنهم ربما كانوا نائمين. وعندما كبّرت الصورة رأيت أن إحدى مقل عيونهم كانت خارج محجرها. كل يوم، أصادف الكثير من الصور أو مقاطع الفيديو مثل هذه، وهي أسوأ شيء رأيته في حياتي.

وأنتِ وقد شاركتِ في تأسيس صفحة صوت أطباء غزة، والتي تقدم شهادات شخصية من العاملين في مجال الرعاية الصحية على الأرض في غزة. هل يمكنك التحدث عن قوة الشهادة والإفادة وحدودها أيضًا؟

تانيا الحاج حسن: كان لدي نهج مختلف تمامًا خلال الأشهر الستة الأولى من هذا الأمر. لقد حميت كل من حولي، بما في ذلك الأشخاص على الجانب الآخر من المقابلات التي أجريتها، من المشاهد المصورة، لأنني كنت أجد تلك الصور مهينة جدا للإنسانية. فمقلة العين، مقلة العين، لا ينبغي أن تخرج من محجرها. فهذا شيء قد تراه في فيلم رعب أو في كابوس. ولا ينبغي للرجل أن يصل إلى قسم الطوارئ ليجري ثلاث عمليات مؤلمة لبتر أطرافه. لا ينبغي لوجه الطفل أن يتدمر. لا ينبغي أن تنكشف الأنسجة الدماغية، وهو في الواقع سؤال يُطرح عن كل طفل يعاني من إصابات مؤلمة بالدماغ. "هل انكشفت الأنسجة الدماغية؟" هذا ما يسألونه. لأنه إذا انكشفت الأنسجة الدماغية، فإننا لا ننعشه. هذا هو حرفيًا السؤال لكل طفل يعاني من إصابة في الرأس، لأننا لا نملك الموارد اللازمة لطفل تكون توقعات نجاته سيئة. ربما ينجو، لكن ليس لدينا الموارد لذلك. إذًا "هل انكشفت الأنسجة الدماغية"، نعم أم لا؟ لا، فنحن لا ننعشه.

إنه أمر مروع للغاية ويصعب تصوره. ولكن هذا هو الواقع. إن الحروق التي تصل إلى تسعين بالمائة من مساحة سطح الجسم ليست أمرًا يجب علينا فحصه. الأطفال الذين احترق جسدهم بالكامل، ولا يمكنهم الحصول على مسكنات الألم لأننا لا نستطيع الحصول عليها. ذلك التعرض هو تجرد من الإنسانية.

كانت استراتيجيتي خلال الأشهر الستة الأولى هي عدم الوصف بالتفصيل، وعدم مشاركة لقطات الفيديو. لقد رأيتِ صفحة صوت أطباء غزة. نحن لا نشارك أبدًا الأشياء التي تكون تصويرية للغاية. في الواقع، إحدى المناقشات التي نجريها باستمرار مع جميع اللقطات والصور التي نتلقاها هي نتمنى أن يرى العالم هذا، ولكن لا يمكننا حمل أنفسنا على إظهاره. أنا والشخص الآخر في صفحة صوت أطباء غزة، كنا نعمل في غزة منذ سنوات. غالبًا ما يكون هؤلاء الأشخاص زملاء موضع اعتزاز ومحبوبين جدًا —

ماري طرفة: إنهم بشر. إنهم يستحقون الكرامة، في الموت كما في الحياة.

تانيا الحاج حسن: نعم. وعندما تكون بعيدًا جدًا عن شيء ما، يصبح التجرد من الإنسانية أقل صعوبة. لا ينبغي أبدًا أن يكون من السهل تجريد شخص ما من إنسانيته. ولكن بالنسبة لنا، فالأمر شخصي أكثر، لأن لدينا كل هذه الاتصالات والعلاقات في المنطقة. كل هذا يعني أن نهجي لم يكن عرض المشاهد المصورة، وليس إعادة مشاركة مقاطع الفيديو التي أراها والتي تجعلني أشعر بالغثيان. فأنا أشارك الاقتباسات والمقابلات والبيانات الصادرة عن المنظمات.

ولكنني وصلت إلى النقطة التي لا أعرف فيها ما الذي يتطلبه الأمر لإيقاظ ضمائر الناس. فلا أعرف ما إذا كانوا لا يرون نفس الأشياء التي أراها، أم إذا كانوا يرونها ولا يهتمون حقًا. وآمل حقًا ألا يكون الحال هو الأمر الأخير، لأن ذلك يحتوي على مستوى من الشر لا أريد أن أعزوه إلى مثل هذه النسبة الكبيرة من العالم.

لذلك قررت، "لنرى، سأعطيكم فرصة". بمقاطع الفيديو هذه. افعلوا شيئًا. ولأن وسائل الإعلام الرئيسية رفضت الإدلاء بشهادتها، فقد تركنا مع عبء الإدلاء بالشهادة بدلًا منهم. نحن الأشخاص الذين ليس لديهم أي خبرة في الصحافة أو الذين لا يتقاضون رواتبهم لتسليط الضوء على ما يحدث، بقينا نحمل هذا العبء على عاتقنا.

هناك الكثير من الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعظمهم غير مدربين ولا يحصلون على أجر على ما يفعلونه، وقد أخذوا على عاتقهم أن يشهدوا الإفادات ويشاركونها، لأنه من الواضح جدًا أن ذلك كان جزءًا من الإستراتيجية الإسرائيلية منذ البداية - من خلال قطع الاتصالات، ومنع الصحفيين الدوليين من الدخول، ومن خلال الاستهداف المباشر للصحفيين المحليين - للتعتيم على ما يحدث في غزة، حتى تتمكن إسرائيل من فعل الأشياء في تعتيم تام. ووسائل الإعلام الدولية التي يمكنها الوصول إلى نفس المعلومات التي يمكننا الوصول إليها أنا وأنتِ، قد أهمل الكثير منها مسؤولياتهم تمامًا في مشاركة ما يحدث على الأرض.

ماري طرفة: لقد كان من المزعج بالنسبة لي أن أدرك عدد الأشخاص الذين لديهم قيم أخلاقية أو يؤمنون بالعدالة بشكل مجرد، والذين في الواقع لا يمثلون شيئًا، ويعيشون من أجل لا شيء، خارج نطاق أنفسهم. فلا أعرف ماذا أفعل بالعالم الذي وجدت نفسي أعيش فيه، وخاصة في المجال الطبي.

تانيا الحاج حسن: لقد واجهت نفس الإدراك. لقد كان من المثير للقلق أن نرى كيف أن حقوق الإنسان العالمية، وخاصة الحق في الصحة بالنسبة لنا في المجال الطبي، ليست عالمية على الإطلاق. إن مشاهدة مجتمعاتنا الطبية المهنية ومستشفياتنا ومؤسساتنا الجامعية وهي تستبعد الفلسطينيين في تطبيقها "العالمي" للقيم كان بمثابة نداء استيقاظ يثير الاشمئزاز. وقد أدى إلى نفور الكثير من أعضائها.

ولهذا السبب، لم يعد بإمكان الكثير منا احترام ما تدعي تلك المؤسسات أنها تمثله أو احترام قيادتها. وفي عالم طب الأطفال، تعمل المؤسسات بجهد لإسكات الأطباء الذين يدعون إلى حماية الأطفال الفلسطينيين، في نفس الوقت الذي يتعرض فيه أطفال غزة للقتل والتشويه واليتم بمعدل غير مسبوق، والذي تعلن فيه المنظمات غير الحكومية الدولية أن غزة هي المكان الأكثر خطورة في العالم لتكون طفلاً فيه.

ماري طرفة: في بعض النواحي، يبدو الأمر وكأن الحياة قد أصبحت واضحة. وهذا الوضوح موجه للغاية بطريقة مدمرة للعالم الذي نعيش فيه. لكن هذا إدانة لهذا العالم.

تانيا الحاج حسن: لقد أصبحت الأمور أكثر وضوحًا بالنسبة لي الآن. أعتقد أنه من قبل، كان لدي الكثير من القلق بشأن الخطوات التالية. والآن هناك مستوى من الثقة في أن ما أعيش من أجله هو شيء جديد ومختلف.

الناس يسألونني باستمرار: "ألم تكوني خائفة من الذهاب إلى غزة؟ ماذا لو قُتلتِ؟ إنه مكان خطير جدًا". وقد كنت متقبلة جدًا لحقيقة أنني قد أتعرض للقتل. لكن مشاهدة الظلم من بعيد كانت أسوأ عندي من تلك المخاطرة. فما فائدة العيش إذا لم أدافع فعليًا عن المبادئ والقيم التي أؤمن بها؟ هناك أشياء أكثر أهمية بكثير من سلامتي الشخصية أو مسيرتي المهنية، مثل القيام بكل ما في وسعي لوقف الإبادة الجماعية.

ماري طرفة كاتبة وطالبة تدرس الطب.

Available in
EnglishSpanishFrenchPortuguese (Brazil)ArabicGermanItalian (Standard)
Author
Mary Turfah
Translators
Yasser Naguib, Fatima Saab Bailoun and ProZ Pro Bono
Date
17.07.2024
Source
Original article🔗
الحرب والسلمPalestine
Privacy PolicyManage CookiesContribution Settings
Site and identity: Common Knowledge & Robbie Blundell